الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: مدارك التنزيل وحقائق التأويل بـ «تفسير النسفي» (نسخة منقحة).
.سورة يونس: مائة وتسعة آيات مكية، وكذا ما بعدها إلى سورة النور..تفسير الآيات (1- 2): {الر تِلْكَ آَيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ (1) أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَبًا أَنْ أَوْحَيْنَا إِلَى رَجُلٍ مِنْهُمْ أَنْ أَنْذِرِ النَّاسَ وَبَشِّرِ الَّذِينَ آَمَنُوا أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ قَالَ الْكَافِرُونَ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ مُبِينٌ (2)}{الر} ونحوه ممال: حمزة وعلي وأبو عمرو، وهو تعديد للحروف على طريق التحدي {تِلْكَ ءايات الكتاب} إشارة إلى ما تضمنته السورة من الآيات، والكتاب السورة {الحكيم} ذي الحكمة لاشتماله عليها، أو المحكم عن الكذب والافتراء والهمزة {أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَبًا} لإنكار التعجب والتعجب منه {أَنْ أَوْحَيْنَا} اسم {كان} و{عجباً} خبره، واللام في {للناس} متعلق بمحذوف هو صفة ل {عجباً} فلما تقدم صار حالاً {إلى رَجُلٍ مّنْهُمْ أَنْ أَنذِرِ الناس} بأن أنذر أو هي مفسرة إذ الإيحاء فيه معنى القول: {وَبَشّرِ الذين ءَامَنُواْ أَنَّ لَهُمْ} بأن لهم. ومعنى اللام في {للناس} أنهم جعلوه لهم أعجوبة يتعجبون منه، والذي تعجبوا منه أن يوحى إلى بشر وأن يكون رجلاً من أفناء رجالهم دون عظيم من عظمائهم، فقد كانوا يقولون: العجب أن الله لم يجد رسولاً إلى الناس إلا يتيم أبي طالب: وأن يذكر لهم البعث وينذر بالنيران ويبشر بالجنان، وكل واحد من هذه الأمور ليس بعجب، لأن الرسل المبعوثين إلى الأمم لم يكونوا إلاَّ بشراً مثلهم، وإرسال اليتيم أو الفقير ليس بعجب أيضاً، لأن الله تعالى إنما يختار للنبوة من جمع أسبابها، والغنى والتقدم في الدنيا ليس من أسبابها. والبعث للجزاء على الخير والشر هو الحكمة العظمى، فكيف يكون عجباً، إنما العجب والمنكر في العقول تعطيل الجزاء {قَدَمَ صِدْقٍ عِندَ رَبّهِمْ} أي: سابقة وفضلاً ومنزلة رفيعة. ولما كان السعي والسبق بالقدم سميت المسعاة الجميلة والسابقة قدماً كما سميت النعمة يداً لأنها تعطى باليد، وباعاً لأن صاحبها يبوع بها، فقيل (لفلان قدم في الخير) وإضافتها إلى {صدق} دلالة على زيادة فضل وأنه من السوابق العظيمة، أو مقام صدق، أو سبق السعادة {قَالَ الكافرون إِنَّ هذا لَسَاحِرٌ مُّبِينٌ} {إن هذا} الكتاب {لسحر} مدني وبصري وشامي، ومن قرأ {لساحر} فهذه إشارة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو دليل عجزهم واعترافهم به وإن كانوا كذابين في تسميته سحراً..تفسير الآيات (3- 4): {إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مَا مِنْ شَفِيعٍ إِلَّا مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (3) إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا إِنَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ بِالْقِسْطِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ شَرَابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَعَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ (4)}{إِنَّ رَبَّكُمُ الله الذي خَلَقَ السماوات والأرض فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ استوى عَلَى العرش} أي استولى فقد يقدس الديان عن المكان والمعبود عن الحدود {يُدَبّرُ} يقضي ويقدر على مقتضى المحكمة {الأمر} أي أمر الخلق كله وأمر ملكوت السماوات والأرض والعرش. ولما ذكر ما يدل على عظمته وملكه من خلق السموات والأرض والاستواء على العرش، أتبعها هذه الجملة لزيادة الدلالة عل العظمة وأنه لا يخرج أمر من الأمور عن قضائه وتقديره وكذلك قوله: {مَا مِن شَفِيعٍ إِلاَّ مِن بَعْدِ إِذْنِهِ} دليل على عزته وكبريائه {ذلكم} العظيم الموصوف بما وصف به {الله رَبُّكُمُ} وهو الذي يستحق العبادة {فاعبدوه} وحدوه ولا تشركوا به بعض خلقه من إنسان أو ملك فضلاً عن جماد لا يضر ولا ينفع {أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ} أفلا تتدبرون فتستدلون بوجوب المصالح والمنافع على وجود المصلح النافع {إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً} حال أي لا ترجعون لي العاقبة إلا إليه فاستعدوا للقائه والمرجع الرجوع أو مكان الرجوع {وَعَدَ الله} مصدر مؤكد لقوله إليه مرجعكم {حَقّاً} مصدر مؤكد لقوله: {وعد الله} {إِنَّهُ يَبْدَأُ الخلق ثُمَّ يُعِيدُهُ} استئناف معناه التعليل لوجوب المرجع إليه {ليجزي الذين ءامنوا وعملوا الصالحات} أي الحكمة بإبداء الخلق وإعادته هو جزاء المكلفين على أعمالهم {بالقسط} بالعدل وهو متعلق ب {يجزي} أي ليجزيهم بقسطه ويوفيهم أجورهم أو بقسطهم أي بما أقسطوا وعدلوا ولم يظلموا حين آمنوا إذ الشرك ظلم {إِنَّ الشرك لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [لقمان: 13] وهذا أوجه لمقابلة قوله: {والذين كَفَرُواْ لَهُمْ شَرَابٌ مّنْ حَمِيمٍ وَعَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُواْ يَكْفُرُونَ} ولوجه كلامي..تفسير الآيات (5- 6): {هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ مَا خَلَقَ اللَّهُ ذَلِكَ إِلَّا بِالْحَقِّ يُفَصِّلُ الْآَيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (5) إِنَّ فِي اخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَّقُونَ (6)}{هُوَ الذي جَعَلَ الشمس ضِيَاء} الياء فيه منقلبة عن واو (ضواء) لكثرة ما قبلها وقلبها قنبل همزة لأنها للحركة أجمل {والقمر نُوراً} والضياء أقوى من النور فلذا جعله للشمس {وَقَدَّرَهُ} وقدر القمر أي وقدر مسيره {مَنَازِلَ} أو وقدره ذا منازل كقوله {والقمر قدرناه منازل} [ياس: 39] {لِتَعْلَمُواْ عَدَدَ السنين} أي عدد السنين والشهور فاكتفى بالسنين لاشتمالها على الشهور {والحساب} وحساب الآجال والمواقيت المقدرة بالسنين والشهور {مَا خَلَقَ الله ذلك} المذكور {إِلاّ} ملتبساً {بالحق} الذي هو الحكمة البالغة ولم يخلقه عبثاً {يُفَصّلُ الآيات} مكي وبصري وحفص وبالنون غيرهم {لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} فينتفعون بالتأمل فيها.{إِنَّ في اختلاف اليل والنهار} في مجيء كل واحد منهما خلف الآخر أو في اختلاف لونيهما {وَمَا خَلَقَ الله في السماوات والأرض} من الخلائق {لآيات لِّقَوْمٍ يَتَّقُونَ} خصهم بالذكر لأنهم يحذرون الآخر فيدعوهم الحذر إلى النظر..تفسير الآيات (7- 10): {إِنَّ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا وَرَضُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُّوا بِهَا وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آَيَاتِنَا غَافِلُونَ (7) أُولَئِكَ مَأْوَاهُمُ النَّارُ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (8) إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (9) دَعْوَاهُمْ فِيهَا سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلَامٌ وَآَخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (10)}{إَنَّ الذين لاَ يَرْجُونَ لِقَاءنَا} لا يتوقعونه أصلاً ولا يخطرونه ببالهم لغفلتهم عن التفطن للحقائق أو لا يأملون حسن لقائنا كما يأمله السعداء أو لا يخافون سوء لقائنا الذي يجب أن يخاف {وَرَضُواْ بالحياة الدنيا} من الآخرة وآثروا القليل الفاني على الكثير الباقي {واطمأنوا بِهَا} وسكنوا فيها سكون من لا يزعج عنها فبنوا شديداً وأملوا بعيداً {والذين هُمْ عَنْ ءاياتنا غافلون} لا يتفكرون فيها، ولا وقف عليه لأن خبر {إن} {أُوْلَئِكَ مَأْوَاهُمُ النار} ف {أولئك} مبتدأ و{مأواهم} مبتدأ ثان و{النار} خبره والجملة خبر أولئك والباء في {بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ} يتعلق بمحذوف دل عليه الكلام وهو جوزوا {إِنَّ الذين ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ} يسددهم بسبب إيمانهم للاستقامة على سلوك الطريق السديد المؤدي إلى الثواب ولذا جعل {تَجْرِى مِن تَحْتِهِمُ الأنهار} بياناً له وتفسيراً، إذ التمسك بسبب السعادة كالوصول إليها، أو يهديهم في الآخرة بنور إيمانهم إلى طريق الجنة، ومنه الحديث: «إن المؤمن إذا خرج من قبره صور له عمله في صورة حسنة فيقول له: أنا عملك فيكون له نوراً وقائداً إلى الجنة، والكافر إذا خرج من قبره صور له عمله في صورة سيئة فيقول له: أنا عملك فينطلق به حتى يدخله النار» وهذا دليل على أن الإيمان المجرد منج حيث قال: {بإيمانهم} ولم يضم إليه العمل الصالح {فِي جنات النعيم} متعلق ب {تجري} أو حال من {الأنهار} {دعواهم فِيهَا سبحانك اللهم} أي دعاؤهم لأن {اللهم} نداء لله ومعناه: اللهم إنا نسبحك أي يدعون الله بقولهم {سبحانك اللهم} تلذذا بذكره لا عبادة {وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلاَمٌ} أي يحيي بعضهم بعضاً بالسلام أو هي تحية الملائكة إياهم، وأضيف المصدر إلى المفعول أو تحية الله لهم {وَءَاخِرُ دعواهم} وخاتمة دعائهم الذي هو التسبيح {أَنِ الحمد للَّهِ رَبّ العالمين} أن يقولوا الحمد الله رب العالمين {أن} مخففة من الثقيلة وأصله أنه الحمد لله رب العالمين، والضمير للشأن. قيل: أو كلامهم التسبيح وآخره التحميد فيبتدئون بتعظيم الله وتنزيهه ويختمون بالشكر والثناء عليه ويتكلمون بينهما بما أرادوا..تفسير الآيات (11- 12): {وَلَوْ يُعَجِّلُ اللَّهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ اسْتِعْجَالَهُمْ بِالْخَيْرِ لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ فَنَذَرُ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ (11) وَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ الضُّرُّ دَعَانَا لِجَنْبِهِ أَوْ قَاعِدًا أَوْ قَائِمًا فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَنْ لَمْ يَدْعُنَا إِلَى ضُرٍّ مَسَّهُ كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (12)}{وَلَوْ يُعَجّلُ الله لِلنَّاسِ الشر استعجالهم بالخير} أصله ولو يعجل الله للناس الشر تعجيله لهم الخير، فوضع استعجالهم بالخير موضع تعجيله لهم الخير إشعاراً بسرعة إجابته لهم، والمراد أهل مكة وقولهم {فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مّنَ السماء} [الأنفال: 32] أي ولو عجلنا لهم الشر الذي دعوا به كما نعجل لهم الخير ونجيبهم إليه {لَقُضِىَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ} لأميتوا وأهلكوا. {لقضى إليهم أجلهم} شامي على البناء للفاعل وهو الله عز وجل: {فَنَذَرُ الذين لاَ يَرْجُونَ لِقَاءنَا في طُغْيَانِهِمْ} شركهم وضلالهم {يَعْمَهُونَ} يترددون، ووجه اتصاله بما قبله أن قوله {ولو يعجل الله} متضمن معنى نفي التعجيل كأنه قيل. ولا نعجل لهم الشر ولا نقضي إليهم أجلهم فنذرهم في طغيانهم أي فنمهلهم ونفيض عليهم النعمة مع طغيانهم إلزاماً للحجة عليهم {وَإِذَا مَسَّ الإنسان} أصابه والمراد به الكافر {الضر دَعَانَا} أي دعا الله لإزالته {لِجَنبِهِ} في موضع الحال بدليل عطف الحالين أي {أَوْ قَاعِدًا أَوْ قَائِمًا} عليه أي دعانا مضطجعاً. وفائدة ذكر هذه الأحوال أن معناه أن المضرور لا يزال داعياً لا يفتر عن الدعاء حتى يزول عنه الضر، فهو يدعونا في حالاته كلها سواء كان مضطجعاً عاجزاً عن النهوض، أو قاعداً لا يقدر على القيام، أو قائماً لا يطيق المشي {فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ} أزلنا ما به {مَرَّ كَأَن لَّمْ يَدْعُنَا إلى ضُرّ مَّسَّهُ} أي مضى على طريقته الأولى قبل مس الضر ونسي حال الجهد، أو مر عن موقف الابتهال والتضرع لا يرجع إليه كأنه لا عهد له به، والأصل {كأنه لم يدعنا} فخفف وحذف ضمير الشأن {كذلك} مثل ذلك التزيين {زُيّنَ لِلْمُسْرِفِينَ} للمجاوزين الحد في الكفر زين الشيطان بوسوسته {مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} من الإعراض عن الذكر واتباع الكفر..تفسير الآيات (13- 15): {وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ وَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا كَذَلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ (13) ثُمَّ جَعَلْنَاكُمْ خَلَائِفَ فِي الْأَرْضِ مِنْ بَعْدِهِمْ لِنَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ (14) وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آَيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا ائْتِ بِقُرْآَنٍ غَيْرِ هَذَا أَوْ بَدِّلْهُ قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (15)}{وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا القرون مِن قَبْلِكُمْ} يا أهل مكة {لَمَّا ظَلَمُواْ} أشركوا وهو ظرف {أهلكنا} والواو في {وَجَاءتْهُمْ رُسُلُهُم} للحال أي ظلموا بالتكذيب وقد جاءتهم رسلهم {بالبينات} بالمعجزات {وَمَا كَانُواْ لِيُؤْمِنُواْ} إن بقوا ولم يهلكوا لأن الله علم منهم أنهم يصرون على كفرهم، وهو عطف على {ظلموا} أو اعتراض، واللام لتأكيد النفي يعني أن السبب في إِهلاكهم تكذيبهم للرسل، وعلم الله أنه لا فائدة في إمهالهم بعد أن ألزموا الحجة ببعثة الرسل {كذلك} مثل ذلك الجزاء يعني الإهلاك {نَجْزِي القوم المجرمين} وهو وعيد لأهل مكة على إجرامهم بتكذيب رسول الله صلى الله عليه وسلم {ثُمَّ جعلناكم خلائف في الأرض مِن بَعْدِهِم} الخطاب للذين بعث إليهم محمد صلى الله عليه وسلم أي استخلفناكم في الأرض بعد القرون التي أهلكناها {لِنَنظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ} أي لننظر أتعملون خيراً أو شراً فنعاملكم على حسب عملكم. و{كيف} في محل النصب ب {تعملون} لا ب {ننظر}، لأن معنى الاستفهام فيه يمنع أن يتقدم عليه عامله، والمعنى أنتم بمنظر منا فانظروا كيف تعملون، أبالاعتبار بماضيكم أم الاغترار بما فيكم؟ قال عليه السلام: «الدنيا حلوة خضرة وإن الله مستخلفكم فيها فناظر كيف تعملون» {وَإِذَا تتلى عَلَيْهِمْ ءاياتنا بَيّنَاتٍ} حال {قَالَ الذين لاَ يَرْجُونَ لِقَاءنَا} لما غاظهم ما في القرآن من ذم عبادة الأوثان والوعيد لأهل الطغيان {ائت بِقُرْءانٍ غَيْرِ هذا} ليس فيه ما يغيظنا من ذلك نتبعك {أَوْ بَدّلْهُ} بأن تجعل مكان آية عذاب آية رحمة وتسقط ذكر الآلهة وذم عبادتها، فأمر بأن يجيب عن التبديل لأنه داخل تحت قدرة الإنسان وهو أن يضع مكان آية عذاب آية رحمة وأن يسقط ذكر الآلهة بقوله: {قُلْ مَا يَكُونُ لِي} ما يحل لي {أَنْ أُبَدّلَهُ مِن تِلْقَائي نَفْسِي} من قبل نفسي {إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يوحى إِلَيَّ} لا أتبع إلا وحي الله من غير زيادة ولا نقصان ولا تبديل، لأن الذي أتيت به من عند الله لا من عندي فأبدله {إِنّى أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبّى} بالتبديل من عند نفسي {عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ} أي يوم القيامة. وأما الإتيان بقرآن آخر فلا يقدر عليه الإنسان، وقد ظهر لهم العجز عنه إلا أنهم كانوا لا يعترفون بالعجز ويقولون لو نشاء لقلنا مثل هذا. ولا يحتمل أن يريدوا بقوله {أئت بقرآن غير هذا أو بدله} من جهة الوحي لقوله: {إني أخاف إن عصيت ربي عذاب يوم عظيم} وغرضهم في هذا الاقتراح الكيد، أما اقتراح إبدال قرآن بقرآن ففيه أنه من عندك وأنك قادر على مثله فأبدل مكانه آخر، وأما اقتراح التبديل فلاختبار الحال، وأنه إن وجد منه تبديل فإما أن يهلكه الله فينجوا منه أولا يهلكه فيسخروا منه، فيجعلوا التبديل حجة عليه وتصحيحاً لإفترائه على الله..تفسير الآيات (16- 17): {قُلْ لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلَا أَدْرَاكُمْ بِهِ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُرًا مِنْ قَبْلِهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (16) فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآَيَاتِهِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْمُجْرِمُونَ (17)}{قُل لَّوْ شَاء الله مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ} يعني أن تلاوته ليست إلا بمشيئة الله وإظهاره أمراً عجيباً خارجاً عن العادات، وهو أن يخرج رجل أمي لم يتعلم ولم يشاهد العلماء فيقرأ عليكم كتاباً فصيحاً يغلب كل كلام فصيح ويعلو على كل منثور ومنظوم، مشحوناً بعلوم الأصول والفروع والإخبار عن الغيوب التي لا يعلمها إلا الله {وَلا أَدْرَاكُمْ بِهِ} ولا أعلمكم الله بالقرآن على لساني {فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُراً مّن قَبْلِهِ} من قبل نزول القرآن أي فقد أقمت فيما بينكم أربعين سنة ولم تعرفوني متعاطياً شيئاً من نحوه ولا قدرت عليه، ولا كنت موصوفاً بعلم وبيان فتتهموني بإختراعه {أَفَلاَ تَعْقِلُونَ} فتعلموا أنه ليس إلا من عند الله لا من مثلي، وهذا جواب عما دسوه تحت قولهم أئت بقرآن غير هذا من إضافة الافتراء إليه.{فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افترى عَلَى الله كَذِبًا} يحتمل أن يريد افتراء المشركين على الله في أنه ذو شريك وذو ولد، وأن يكون تفادياً مما أضافوه إليه من الافتراء {أو كذّب بآياته} بالقرآن، فيه بيان أن الكاذب على الله والمكذب بآياته في الكفر سواء {إِنَّهُ لا يُفْلَحُ الْمُجرِمُون}.تفسير الآيات (18- 20): {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لَا يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (18) وَمَا كَانَ النَّاسُ إِلَّا أُمَّةً وَاحِدَةً فَاخْتَلَفُوا وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ فِيمَا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (19) وَيَقُولُونَ لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آَيَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَقُلْ إِنَّمَا الْغَيْبُ لِلَّهِ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ (20)}{وَيَعَبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ مَالا يَضُرُّهُمْ} إن تركوا عبادتها {وَلاَ يَنفَعُهُمْ} إن عبدوها {وَيَقُولُونَ هَؤُلاء} أي الأصنام {شفعاؤنا عِندَ الله} أي في أمر الدنيا ومعيشتها لأنهم كانوا لا يقرون بالبعث {وأقسموا بالله جهد أيمانهم لا يبعث الله من يموت} [النحل: 38] أو يوم القيامة أن يكن بعث ونشور {قُلْ أَتُنَبّئُونَ الله بِمَا لاَ يَعْلَمُ} أتخبرونه بكونهم شفعاء عنده وهو إنباء بما ليس بمعلوم لله، وإذا لم يكن معلوماً له وهو عالم بجميع المعلومات لم يكن شيئاً. وقوله {فِى السماوات وَلاَ في الأرض} تأكيد لنفيه لأن ما لم يوجد فيهما فهو معدوم {سُبْحَانَهُ وتعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ} نزَّه ذاته عن أن يكون له شريك. وبالتاء: حمزة وعلي وما موصولة أو مصدرية، أي عن الشركاء الذين يشركونهم به، أو عن إشراكهم {وَمَا كَانَ الناس إِلاَّ أُمَّةً وَاحِدَةً} حنفاء متفقين على ملة واحدة من غير أن يختلفوا بينهم، وذلك في عهد آدم عليه السلام إلى أن قتل قابيل هابيل، أو بعد الطوفان حين لم يذر الله من الكافرين دياراً {فاختلفوا} فصاروا مللاً {وَلَوْلاَ كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رَّبّكَ} وهو تأخير الحكم بينهم إلى يوم القيامة {لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ} عاجلاً {فِيمَا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} فيما اختلفوا فيه وليميز المحق من المبطل وسبق كلمته لحكمة، وهي أن هذه الدار دار تكليف وتلك الدار دار ثواب وعقاب.{وَيَقُولُونَ لَوْلاَ أُنزِلَ عَلَيْهِ ءايَةٌ مّن رَّبّهِ} أي آية من الآيات التي اقترحوها {فَقُلْ إِنَّمَا الغيب للَّهِ} أي هو المختص بعلم الغيب فهو العالم بالصارف عن إنزال الآيات المقترحة لا غير {فانتظروا} نزول ما اقترحتموه {إِنِّي مَعَكُمْ مِّنَ الْمُنتَظِرينَ} لما يفعل الله بكم لعنادكم وجحودكم الآيات.
|